«نوح» الممنوع مـــن العــــرض!


* سيد أحمد رضا
لم يكن طريقاً سهلاً ذلك الذي سلكه جلجامش للوصول إلى «اوتنابشتيم» ليسأله عن سر الخلود، فما كان من الأخير إلا أن قص عليه قصته، وكشف له عن خبايا الطوفان. سيسمى اوتنابشتيم فيما بعد نوحاً، وسيتم منع عرض الفيلم الذي يحمل نفس الاسم في كلٍ من البحرين، وقطر، والإمارات، بالإضافة لتحريم عرضه من قبل الأزهر في صالات العرض المصرية!
من الغريب حقاً أن يمنع شيءٌ في عصر الإنترنت، ولا أعتقد بأن أحداً يجهل ذلك، فقد أضحى باستطاعة الإنسان الوصول لكل ما يريد عبر هذه البوابة المفتوحة.. وهذا يسقط كل التوصيات التي تفرض ما يجب مشاهدته وما لا يجب، وما يجب قراءته وما لا يجب.
عندما يمنع فيلمٌ كـ «نوح» ويُعتقد بأن المنع حل فالأمر ليس كذلك... إن قصة كقصة هذا النبي تشكل دافعاً بالنسبة للكثيرين لمشاهدة الفيلم، فحياته الطويلة، وبناؤه للسفينة، وأحداث الطوفان، وكل التفاصيل.. تحفز على أن تشفع هذه القصة المخزنة في أذهاننا بمشاهد بصرية تعيد تمثيل هذه الملحمة العظمى، والمليئة بالإثارة.
أما أن تمنع عرض الفيلم دون أن تعمل على إنتاج عمل بثقل العمل الممنوع، ويكون مطابقاً لوجهة نظرك، فذلك لن يشبع الفضول الذي تولد عند الكثيرين حال علمهم بوجود فيلم يجسد هذه الواقعة.
لفت نظري خلال متابعتي لوسائل التواصل الاجتماعي تعليق يقول ما معناه «ما دخل الغرب بأنبيائنا، ولماذا يحاولون سرقة قصصهم والقيام بتصويرها في أفلامهم؟» المدهش في هذا التعليق اعتقاد المعلق بأن نوح والأنبياء السابقين على النبي محمد محصورون بنا!.. وبطبيعة الحال اللوم لا يقع على المعلق بقدر وقوعه على من يغيب ـ بقصد أو دونما قصد - وجود قصص لهؤلاء الأنبياء في الثقافات والديانات الآخرى، وبصورة قد تختلف عن التي ذكرت في القرآن الكريم، والروايات الإسلامية.
يساهم هذا المنع في تعزيز مثل هذه الثقافة الأحادية حيثُ الاعتقاد برأي، وتاريخ، وفكرة، وقصة واحدة، دونما تصور بأن هناك تصورات أخرى تتشابه أو تختلف مع التصورات التي نؤمن بها بشكل قد يكون طفيفاً أو كبيراً لدى الأديان السماوية. فلو استبدل المنع بتنويه، يستطيع المرء الاطلاع عليه قبل دخول الفيلم، يوضح له حكماً شرعياً ما، أو أن القصة مستندة على مصدرٍ ما، أو غيرها من التنويهات التي ستكون بمثابة الحجة، والتي سيلتزم بها الرافض لمثل هذه الأفلام، دون مصادرة حق الآخر.. كما أن التنويه بأن القصة مستندة إلى التصور الفلاني بمثابة منبه لعقل المشاهد، قبل، وأثناء، وبعد مشاهدة الفيلم، وهو أمر بديهي لدى الكثير ممن سيشاهدون الفيلم!
وبالنسبة لقصة نوح بشكلٍ خاص، فهذه القصة تعد تراثاً إنسانياً مشتركاً لكونها وردت في كتابات وملاحم العديد من الحضارات والأديان، ولكنها تختلف من مكان لآخر، فما جاءت به ملحمة جلجامش يختلف عن ما ذكر في التوراة، وما جاء به هذا الأخير يختلف عن ما ورد في القرآن الكريم، إلا أن هناك خطوطا عامة مشتركة لواقعة الطوفان، وهذا ما يبرر أن تكون هناك تصاوير مختلفة مبنية على مرجعية ما.. وهنا لا نعني تلك الأعمال التي تعتمد التحريف بقصد الإساءة.
إن المنع أو المصادرة لأعمال تستند على مرجعيات مختلفة، يطرح سؤالاً: ماذا لو كان بيننا من باستطاعته إنتاج فيلم بهذا الحجم، وقرر أن يكون مبنياً على ما ورد في ملحمة جلجامش بشأن الطوفان.. هل سيتم منعه بحجة إن ذلك لا يتوافق مع ما نؤمن به؟

صحيفة الأيام البحرينية، 12 مارس 2014
http://www.alayam.com/writers/11725

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العتمة الموحشة!

"لوسي" وخرافة عقل الإنسان

العقل المتقدم والآخر المتحيون!